الأحد، 19 يناير 2014

أدب الخلاف



أدب الخلاف
خطبة للشيخ أحمد إبراهيم عبد الرءوف

الخطبة الأولى
إنَّ الحمدَ لله ، نحمدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُهُ ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أنفسِنا ، وسيئاتِ أعمالِنا ، مَنْ يهدِهِ الله فلا مضلَّ لهُ ، ومَنْ يضلِلْ فلا هاديَ لهُ ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ..
  

 [ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ] آل عمران : 103
 
[ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا الله الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ] النساء : 1

[ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ] الأحزاب : 70 ، 71

 
أما بعدُ .. فإنَّ أصدَقَ الحديثِ كتابُ الله ، وخيرَ الهديِ هديُ محمدٍ – صلى الله عليه وسلم – وشرَّ الأمورِ محدثاتُها ، وكلَّ محدَثَةٍ بدعةٍ ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٍ ، وكلَّ ضلالَةٍ في النَّارِ ، ثم أما بعدُ أيها المسلمونَ ..
إن أمة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم  كانت ولا زالت وستظل خير أمة أخرجت للناس ، قال الله تعالى [ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ] آل عمران : 110 .. فأمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس ، ولا ينبغي أبداً أن نجرد هذه الأمة من خيريتها لمجرد أنها تمر بمرحلة عصيبة صعبة من مراحل الضعف والفرقة ، فالأيام دول ، قال تعالى [ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ]  آل عمران : 140 ، 141 ..
إن أخطر مرض يصيب هذه الأمة هو مرض الخلاف ، الخلاف الهدام ، الذي يهدم ولا يبني ، ويفرق ولا يجمع ، لذلك حذرنا الله عز وجل من هذا المرض العضال فقال [ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ] الأنعام 159 وحذر سبحانه وتعالى من التنازع والخلاف ، وجعل الفشل قرين التنازع والخلاف ، وأخبر أن الضعف والهوان هو النتيجة الحقيقية والثمرة الفعلية لهذا التنازع والخلاف فقال تعالى [ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ] الأنفال 46  هذا في الدنيا ، أما في الآخرة فقد قال تعالى
[ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] آل عمران 105 ..
إن الله عز وجل أمر الأمة بالوحدة والاعتصام والترابط والألفة فقال  [ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ] آل عمران 103 .
لماذا أمرنا الله عز وجل بالوحدة والاعتصام ؟ لأن الاختلاف طبيعة في البشر ، فالأصل في البشر أنهم مختلفون ، محال أن يتفق اثنان من البشر في كل شيء ، في الطول والقصر ، في القوة والضعف ، في لون البشرة ، في اللغة ، في بصمة اليد ، في بصمة الصوت ، في بصمة العين ، في الحامض النووي ، رغم أن أصل مادة تكوينهم واحد ، لكن الله عز وجل جعل من هذا الأصل عدداً لا يعلمه إلا الله من البشر ؛ محال أن يتفق اثنان منهم في كل شيء ، وذلك من آيات الله جل وعلا .. قال تعالى [ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ] الروم 22 ..
شاء ربي جل وعلا وقدر أن يكون الناس مختلفين ، وجعل ذلك آية من آياته الدالة على قدرته سبحانه ، ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ، قال تعالى [ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ] يونس 99 وقال تعالى [ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ] هود 118 ، 119
محال أن يتفق اثنان من البشر على رأي واحد في كل أمر وفي كل شيء ، لأنهم يختلفون في طريقة استقبال المعلومة ، وفي طريقة فهم المعلومة ، وفي طريقة تطبيق هذا الفهم ..
فالذي يطلب أن يتفق البشر كلهم على رأي واحد في كل شيء ، هذا يطلب مستحيلاً ، مهما كانت القضية التي يدعو للاتفاق عليها قضية عادلة ، فليس هناك أعدل من قضية توحيد الله تبارك وتعالى ، لكن انظر إلى حال البشر ، تجد أكثرهم مشركون بالله جل وعلا ، وقليل منهم المؤمنون ، مهما كان هذا الداعي نزيهاً شريفاً طاهراً عفيفاً ، فليس هناك أشرف ولا أطهر ولا أعف ولا أنزه من رسل الله عليهم الصلاة والسلام ، ولكن بالرغم من كل هذا ، لم يجمع قوم على نبيهم ..
  أيها المسلمون .. إن النبي – صلى الله عليه وسلم  ما ترك باباً من أبواب الخير إلا وأرشدنا إليه ، ولا باباً من أبواب الشر إلا وقد حذرنا منه .. لقد تنبأ – صلى الله عليه وسلم  بكثرة وقوع الخلاف من بعده ووضع الحل لتفادي مساوئ هذا الخلاف فقال (( إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اختِلافاً كَثيراً ، فَعَليْكُمْ بسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِيِّنَ مِنْ بَعْدِي ، عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّواجِذِ ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ ؛ فإنَّ كلَّ بِدْعَةٍ ضَلالةٌ )) رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وغيرهم
  هذا هو الحل الوحيد لهذه المشكلة ، ألا وهو رد الأمر إلى الكتاب والسنة .. تعرض الأمور كلها ، صغيرها وكبيرها على كتاب الله وعلى سنة رسول الله ، فإن كانت موافقة لشرع الله قبلت ، وإلا ردت ، قال تعالى [ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ] النساء 59 وقال تعالى [ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ] النساء 65 ..
الإسلام أمرنا أن يحترم بعضنا بعضاً ، الإسلام أمرنا أن يوقر بعضنا بعضاً ، الإسلام نهانا أن يحقر بعضنا بعضاً ، الإسلام أمرنا بالتراحم والتعاطف والتآلف والتكاتف ، أن نكون إخوة متحابين ، يقبل بعضنا بعضاً على ما خلق الله تبارك وتعالى ، تقبل أخاك المسلم على ما خلقه الله عز وجل ، لون بشرته ، طوله ، قصره ، ذكائه ، غبائه ، تقبله على ما خلق الله تبارك وتعالى ..
قالت عائشة رضي الله عنها : قلت للنبي – صلى الله عليه وسلم  : حسبُكَ، من صفِيّة كذا وكذا ، تعني أنها قصيرة ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم  (( لَقَدْ قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَتْ بِمَاءِ البَحْرِ لَمَزَجَتْهُ ! )) رواه أبو داود أي لو خلطت بماء البحر لغيرت لونه وطعمه وريحه لشدة نتنها وقبحها .
ولما عير أبو ذر بلالاً بأمه فقال له يا ابن السوداء ، غضب بلال وشكى للنبي – صلى الله عليه وسلم  ، فدخل أبو ذر على النبي – صلى الله عليه وسلم – فأعرض عنه ، فقال ما أعرضك عني إلا شيء بلغك يا رسول الله ، فقال النبي لأبي ذر (( أَنْتَ الَّذِي تُعَيِّرُ بِلَالًا بِأُمِّهِ ؟؟ أعيرته بأمه ؟؟ إنك امرؤ فيك جاهلية ، والذي نزل الكتاب على محمد ما لأحد فضل أحد إلا بعمل )) رواه البيهقي ..
هكذا أمرنا الإسلام أن يقبل بعضنا بعضاُ على ما خلق الله جل وعلا ..
ألا وإن مما خلق الله جل وعلا : عقول البشر وأفكارهم وآراءهم ، هذا كله من خلق الله جل وعلا ، هكذا علمنا الإسلام ، فالذي يحتقر رأي أخيه ، والذي يسيء إلى فكر أخيه ، هذا إنما يحتقر ويسئ ويقلل من شأن ما خلق الله ..
ينبغي أن تتقبل رأي أخيك كما تقبل شكله وهيئته ، وتسمعه حتى وإن كان مخالفاً لرأيك .. فإن اختلفتما وتنازعتما .. فالحل معروف .. ردوه إلى الله والرسول ..
رسول الله – صلى الله عليه وسلم  علمنا كيف يكون الخلاف وكيف يكون أدب الخلاف ، واحترام المخالف حتى ولو كان كافراً ..
 يأتي إليه أبو الوليد عتبة بن ربيعة يقول له كلام لا يوافق عليه النبي بالكلية ، يعرض عليه أن يتنازل عن دعوته ورسالته وأن يكف عن دعوة الناس إلى الله مقابل المال والجاه والسلطان ، فلم يقاطعه النبي – صلى الله عليه وسلم – ، لم يقل له اسكت يا كافر ، اسكت يا جاهل ، بل قال له : (( قل يا أبا الوليد أسمع )) وظل يستمع إلى كلامه حتى انتهى منه ، ثم قال له : (( أفرغت يا أبا الوليد ؟ )) قال : نعم . قال فاسمع إذاً ، ثم تلا عليه سورة فصلت حتى انتهى إلى السجدة فسجد ، وقال له (( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك )) رواه البيهقي ..
هذا هو رسولنا ومعلمنا وقدوتنا وأسوتنا – صلى الله عليه وسلم  ، فما بال أقوام الآن يختلفون ويتنازعون فيتقاتلون ويسفك بعضهم دم بعض ، ويعتدي بعضهم على عرض بعض ، وعلى مال بعض ؟؟!!
ما بال أقوام يوالون ويعادون ، ويحبون ويبغضون ، بناءً على الاتفاق على الرأي ، أو الانضمام لجماعة ، أو الانتماء لحزب ، ألا فلنتق الله ، وليسع بعضنا بعضاً ، وليسمع بعضنا من بعض ، فإن تنازعنا في شيء رددناه إلى الله والرسول وعرضناه على كتاب الله وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم  ..
لا تعصب لرأي شخص ، ولا لمنهج جماعة ، ولا لبرنامج حزب ، ولا لسياسة مؤسسة ، كل هذا من وضع البشر ؛ يخطئون ويصيبون ، إنما الانتماء والتحاكم والتسليم والخضوع والإذعان يكون لمنهج وقانون خالق البشر جل وعلا ..
[ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ] الأنعام 159
[ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ] الأنفال 46 
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين ، له الحمد الحسن ، والثناء الجميل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحد لا شريك له ، يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد ..
اعلموا رحمكم الله أن دلالة الكلام نوعان : دلالة حقيقية ، ودلالة إضافية ..
 دلالة حقيقة ، وهي التابعة لقصد المتكلم ، ودلالة إضافية ، وهذه تختلف باختلاف المستمعين ...
 إذا طبقنا هذا على نصوص القرآن والسنة فإن دلالة النصوص نوعان : دلالة قطعية ، ودلالة ظنية ..
 دلالة قطعية يعني لا تقبل اجتهاداً ولا احتمالاً ، فلا مجال للخلاف فيها ، مثل قول الله عز وجل [ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ] الإخلاص 1 وقوله تعالى [ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ ] النساء 12 .. وهكذا ..
وهناك نصوص دلالتها ظنية ، تحتمل الاجتهاد ، تحتمل أكثر من معنى ، وهذا من رحمة الله تعالى ، مثل قوله [ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ ]   البقرة 228  كلمة القرء تطلق على فترة الحيض وتطلق أيضاً على فترة الطهر ، فمن العلماء من أفتى بأن عدة المطلقة ثلاث حيضات ، ومنهم من قال ثلاثة أطهار ، ومنهم من قال تعتد بأبعد الأجلين .. ودليلهم كلهم نفس الآية .
وقوله تعالى [ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ ] المائدة 6  اختلف العلماء في القدر المفروض مسحه لاختلافهم في معنى ( الباء ) فمنهم من قال بكل رؤوسكم ، ومنهم من قال ببعض رؤوسكم ..
الدليل واحد .. هؤلاء يستدلون بهذه الآية والآخرون يستدلون بنفس الآية .. سبحان الله .. إنها طبيعة البشر .. فسبحان خالق البشر ..
لقد وقع خلاف في فتوى في أمر واحد ، في قضية واحدة .. بين نبيين كريمين قال تعالى [ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ] الأنبياء 78 ، 79
لقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في فهم أمر واحد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم بينهم ومعهم .. لما أتم الله عز وجل النصر لنبيه في غزوة الأحزاب  [ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ] الأحزاب 25 قال النبي صلى الله عليه وسلملأصحابه (( لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلَّا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ )) رواه البخاري ومسلم أمر واضح وصريح .. لكن الصحابة بشر .. أدركهم وقت العصر وهم في الطريق فانقسموا إلى فريقين في فهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم :  فريق صلى العصر وهو في الطريق .. وفريق أجل الصلاة حتى خرج وقتها وصلوها لما وصلوا بني قريظة ..
لما علم النبي بهذا ، ماذا كان رد فعله ؟ هل أنكر على فريق من الفريقين ؟ هل أمر فريقاً من الفريقين بإعادة الصلاة لأن صلاته باطلة ؟ هل فضل النبي فريقاً على آخر ؟ ماذا فعل النبي ؟
 اسمع .. جمع الفريقين في صف واحد وقاتل بهما يهود بني قريظة .. هكذا علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم..
انظر إلى الأئمة الأعلام أصحاب المذاهب الأربعة ، أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل رحمهم الله ، انظر كيف كانوا يوصون أتباعهم وتلامذتهم ومقلديهم بعدم التعصب لرأيهم ، وإنما يعرض الرأي والمذهب والقول على الكتاب والسنة أولاً ، فإن وافقهما قبل وإلا رد على صاحبه ، لأنه ربما أخطأ أحدهم في اجتهاده ، أو لم يبلغه دليل في المسألة فاجتهد فيها فخالف الدليل ، فكانوا يوصون أتباعهم ألا يتعصبوا لرأيهم ولا لمذهبهم وإنما يعرض القول على الدليل من القرآن والسنة فإن وافقهما قبل ، وإلا رد على صاحبه ..
قال أبو حنيفة الإمام .. لا ينبغي لمن له إسلام
أخذاً بأقوالي حتى تعرض .. على الكتاب والحديث المرتضى
ومالك إمام دار الهجرة .. قال وقد أشار نحو الحجرة
كل كلام منه ذو قبول .. ومنه مردود سوى الرسول
والشافعي قال إن رأيتم .. قولي مخالفاً لما رويتم
من الحديث فاضربوا الجدار .. بقولي المخالف الأخبار
وأحمد قال لهم لا تكتبوا .. ما قلته بل أصل ذاك فاطلبوا
فانظر ما قالت الهداة الأربعة .. واعمل بها فإن فيها منفعة
لقمعها لكل ذي تعصب .. والمنصفون يكتفون بالنبي
ما أروع هذا الدعاء الذي كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح صلاته بالليل (( اللهمَ ربّ جبريلَ وميكائيل وإسرافيل ، فاطِرَ السماواتِ والأرض ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ ، أنت تحكمُ بين عِبادِك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدِني لِمَا اختُلِفَ فيه من الحقَّ بإذنِكَ ، إنك تهدي مَن تشاءُ إلى صِراطٍ مستقيم )) رواه أبو داود والترمذي
أن يسأل المرء ربه أن يهديه إلى الصواب فيما اختلف فيه من الحق .. فالله عز وجل هو الهادي إلى الصراط المستقيم ، وهو الموفق إلى الفهم السليم .. فاللهم رب جبريلَ وميكائيل وإسرافيل ، فاطِرَ السماواتِ والأرض ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ ، أنت تحكمُ بين عِبادِك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدِني لِمَا اختُلِفَ فيه من الحقَّ بإذنِكَ ، إنك تهدي مَن تشاءُ إلى صِراطٍ مستقيم ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق